
الانتقال من الولاء الأعمى إلى النقد الذاتي: بين الواقع اللبناني واغتراب الأمل
بقلم الدكتور جيلبير المجبر
في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان، يظل الحديث عن الولاء الأعمى وضرورة النقد الذاتي في السياسة من الموضوعات الأكثر إثارة للجدل. هذا الولاء الذي غالبًا ما يكون مشبعًا بالعاطفة أكثر من كونه مبنيًا على دراسات موضوعية وحلول عملية، هو أحد الأسباب التي أسهمت في تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية في البلد. نحن في حاجة إلى العودة إلى أنفسنا، إلى أفكارنا، إلى النقد الذاتي الذي يحدد مسؤولياتنا كأفراد، سواء داخل لبنان أو خارجه.
لكن مع هذا الوضع المعقد، يطرح السؤال نفسه: هل يمكن للاغتراب أن يكون هروبًا من الواقع أو خطوة نحو بناء أمل جديد؟ هذا السؤال يحمل في طياته الكثير من المعاني والتحديات التي يستحق الوقوف عندها.
لطالما كان الولاء الأعمى الذي لا يعترف بالخطأ، ولا يقبل بالمساءلة، هو المحرك الأساسي للكثير من الحركات السياسية في لبنان. من خلاله، تم تكريس الانقسامات الطائفية والحزبية، ووجد البعض أنفسهم في مواقع معارضة أو تأييد أعمى، دون النظر إلى الحقيقة أو المصلحة العامة. الانتقال من الولاء الأعمى إلى النقد الذاتي يعني ببساطة: أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع واقعنا. أن نواجه أخطاءنا دون أن نغفل عن آلامنا، وأن نراجع اختياراتنا بناءً على معايير عقلانية، بعيدة عن الانتماءات الأيديولوجية الضيقة.
لطالما كان الاغتراب خيارًا متاحًا أمام اللبنانيين، ليس فقط من أجل تحسين وضعهم الاقتصادي، بل هروبًا من الواقع السياسي والاجتماعي الذي أصبح غير قابل للتغيير. في هذا السياق، قد يُنظر إلى الاغتراب على أنه بمثابة “الهروب” من واقع يفرض نفسه يومًا بعد يوم، من أزمة اقتصادية خانقة، إلى نظام سياسي عجز عن تلبية تطلعات شعبه. ومع ذلك، يمكن للاغتراب أن يكون أكثر من مجرد الهروب. فقد يمثل فرصة للبناء والنجاح الشخصي بعيدًا عن الفوضى الداخلية، حيث يجد العديد من اللبنانيين في الخارج بيئة أكثر استقرارًا، سواء من حيث التعليم أو العمل أو حتى الجودة الحياتية.
إلا أن الاغتراب لا يعني نسيان لبنان، ولا يعني أن المغترب يصبح منفصلًا عن قضايا بلاده. فبعض المغتربين استطاعوا أن يحققوا النجاح على الصعيدين الشخصي والمهني، ولكنهم لم ينسوا أو يتخلوا عن مسؤولياتهم تجاه وطنهم الأم. في واقع الحال، المغترب اللبناني يمكن أن يكون جزءًا من حل الأزمة اللبنانية، إذا ما أُتيح له أن يتفاعل مع التحديات التي تواجه لبنان من خلال الاستثمارات، نقل المعرفة والخبرات، وحتى دعم الحركات الإصلاحية التي تسعى إلى تغيير الواقع السياسي في البلاد.
في هذا العصر، يمكن للمغتربين أن يكونوا جسرًا بين لبنان والعالم. بفضل التواصل الرقمي والقدرة على التفاعل من بعيد، يمكن للمغتربين المساهمة في تقديم الدعم والمساعدة، سواء على الصعيد الاقتصادي من خلال الاستثمارات أو على الصعيد الاجتماعي من خلال التبادل الثقافي والمعرفي. في الوقت نفسه، من خلال الإيمان بالتحول السياسي والاقتصادي في لبنان، يمكن للمغتربين أن يصبحوا جزءًا من الحلول بعيدًا عن الانغماس في المعارك الحزبية والطائفية التي لطالما حكمت السياسة الداخلية في لبنان.
بداية من النقد الذاتي الذي يدعو إلى مراجعة مواقفنا وأفكارنا بشكل عقلاني، وصولًا إلى التغيير الجذري الذي يجب أن يبدأ من الأفراد أنفسهم. لبنان بحاجة إلى أفراد قادرين على مواجهة الواقع النقدي، حتى لو كانت تلك المواجهة مؤلمة. العودة إلى لبنان، سواء عبر أفكار إصلاحية أو عبر النضال الاجتماعي والسياسي، تبدأ من العودة إلى نقد أنفسنا وتحديد أولوياتنا بعيدًا عن العواطف.
الاغتراب ليس بالضرورة أن يكون فقدانًا للهوية أو الهروب من المسؤولية، بل هو خيار مدروس يمكن أن يسهم في نجاح الفرد شخصيًا وفي تحسين وضعه. ولكن المغترب يجب أن يكون دائمًا في حالة اتصال مع وطنه، إما من خلال دعم مبادرات داخل لبنان أو عبر المساهمة في حركات التغيير. المغترب اللبناني يمكنه أن يظل جزءًا من حركة الإصلاح والتغيير من خلال أفكاره، تجاربه، ومعرفته التي اكتسبها في الخارج. هذه المساهمة يمكن أن تكون حيوية من خلال مشاريع استثمارية أو من خلال نقل الخبرات إلى جيل جديد في لبنان يسعى لبناء وطن أكثر استقرارًا.
في النهاية، لا يمكننا الحديث عن مستقبل لبنان بعيدًا عن النقد الذاتي الذي يبدأ من كل فرد في المجتمع. هذا النقد لا يعني الانخراط في محاولات الهدم أو التشكيك في كل شيء، بل هو دعوة لمراجعة الأخطاء والعمل على تصحيحها بشكل عقلاني ومنطقي. الاغتراب قد يكون خيارًا، ولكنه لا ينبغي أن يكون هروبًا من مسؤولية التغيير داخل لبنان. التغيير يبدأ من الوعي الذاتي ومن القدرة على الوقوف على المسافة النقدية اللازمة لتقييم الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان.
الانتقال من الولاء الأعمى إلى النقد الذاتي هو بداية الطريق نحو بناء وطن جديد، وطن لا يعتمد على العواطف أو الولاءات الضيقة، بل على التفكير العقلاني، وعلى بناء جيل جديد من اللبنانيين المستعدين للمساهمة في تحسين وطنهم سواء في الداخل أو في الخارج.