فتات الحياة: درس التواضع في زمن الجوع

فتات الحياة: درس التواضع في زمن الجوع
بقلم: الدكتور جيلبير المجبر
في خضم الأزمات والتحديات، يتجرأ البعض على السخرية من ما لا يفهمونه، يستهزئون بالضعفاء، ويتفاخرون بما لديهم من مال أو سلطة أو قوة. يعتقدون، في غفلة عن التاريخ وحكمة التجارب، أن ما لديهم هو أمر دائم، وأن كل شيء يقع تحت سيطرتهم. لكن، كما يعلمنا التاريخ، فإن الرياح لا تجري دائمًا بما تشتهي السفن، وعندما تصطدم الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية بالجدران الصلبة للأزمات، نكتشف حينها أن ما كان يُحتقر بالأمس قد يصبح في لحظات الحاجة أملًا للبقاء.
إن سخريتنا من “الفتات” قد تكون، في الواقع، سخريتنا من فرص الحياة التي تأتي في أشكال بسيطة قد لا نقدرها في وقتنا الراهن. فالفتات ليس مجرد ما يسقط من المائدة، بل هو تجسيد لكل ما كان مهملًا أو مستهجنًا. لكن، عندما يحاصرنا الجوع، سواء كان جوعًا ماديًا أو جوعًا فكريًا، نجد أنفسنا في أمس الحاجة إلى ما كان في السابق يُنظَر إليه بازدراء. في لحظة القسوة، تتلاشى الكبرياء وتختفي الأوهام عن القوة. يتضح لنا أن حتى الفتات، الذي كان يوماً ما مصدر استهزاء، يصبح مصدر حياة أو فرصة.
قد يظن البعض أن الجوع بعيد عنهم، أو أن حياتهم لن تعرف النقص أو العوز. لكن الجوع ليس بالضرورة فقط عن فقدان الطعام، بل يمكن أن يكون جوعًا للفرص، أو جوعًا للعدالة، أو حتى جوعًا للمبادئ. وفي النهاية، كلنا سنواجه لحظة يضيق فيها الأفق، ويختفي فيها الرفاه، وتتحطم فيها صورنا الذاتية عن القوة والامتياز. وعندما تحدث تلك اللحظة، سيبحث الجميع عن فتات الحياة، حتى وإن كان في أماكن لم نتخيلها يوماً.
إن المواقف التي نظن أنها تافهة أو غير ذات قيمة قد تحمل في طياتها دروسًا لا تقدر بثمن. عندما يحاصرنا الجوع، سواء كان في شكل أزمة اقتصادية أو انعدام الفرص، سنتعلم أن العظمة تكمن في قدرتنا على التواضع، في قدرتنا على قبول ما لا نتوقعه، وفي قبول ما قد بدا لنا في الماضي تافهًا أو غير مهم.
وهنا يأتي الدرس الأكبر: أن من يسخر من فتات الآخرين قد يجد نفسه في يوم ما في حاجة ماسة إلى نفس هذا الفتات. لا شيء يبقى على حاله، والظروف تتغير، وعندما يتبدل الحال، ستظهر الحاجة إلى كل شيء، حتى وإن كان الفتات. هذه الحقيقة هي درس الحياة: التواضع أمام ما نملك، والتقدير لما نعتبره تافهًا، لأن في قلب كل شيء قد يكون هناك مصدر للحياة.
ولعل أهم درس في هذا السياق هو أن العظمة ليست في ما نملك، بل في قدرتنا على الاستمرار، على التكيف، وعلى الاعتراف بأن الفتات قد يكون بداية جديدة، وأن الكبرياء لن يعيد لنا ما فقدناه، بل قبول ما هو أمامنا قد يكون السبيل للبقاء على قيد الحياة.