“لبنان في عصر التقدم والتكنولوجيا: لماذا ما زلنا أسرى البيروقراطية القديمة؟”
في عصر يشهد تقدماً تكنولوجياً غير مسبوق في جميع أنحاء العالم، ما زال المواطن اللبناني يعاني من تبعات البيروقراطية التقليدية التي تُعرقل حياته اليومية وتستهلك وقته وجهده. في الوقت الذي يُنجز فيه أي إجراء في دقائق في معظم الدول المتقدمة، يضطر اللبنانيون للانتظار ساعات طويلة، أحيانًا أيامًا، لإنجاز معاملة قد تكون بسيطة في ظاهرها لكنها تُصبح شاقة ومعقدة بسبب الإجراءات الورقية والتوقيعات والأختام التي لا تنتهي.
ورغم أن هذه الممارسات البيروقراطية هي جزء من الروتين الحكومي، فإنها تتجاوز في بعض الأحيان حدود المعقول لتُصبح حاجزًا كبيرًا أمام تقدم الأفراد والمجتمع. في لبنان، لا يقتصر الأمر على الوقوف في الصفوف أو تقديم الأوراق المطلوبة فحسب، بل أحيانًا نجد أن المعاملات تتأجل لعدة أيام بسبب غياب الموظف المعني أو بسبب سياسات غير واضحة، حيث يمكن أن يُطلب من المواطن أن ينتظر لمجرد غياب التوقيع أو وجود “إرادة” الموظف في تقديم الخدمة.
التحديات المستمرة:
واحدة من أكبر الصعوبات التي يواجهها المواطن اللبناني هي التأجيل المتكرر للمعاملات، لدرجة أنه قد يضطر للعودة في اليوم التالي أو حتى في أيام لاحقة في حال غياب الموظف المختص. في بعض الأحيان، لا يقتصر الأمر على غياب الموظف، بل يمتد ليشمل تلك الحالات التي يُماطل فيها الموظف في تقديم الخدمة لأسباب شخصية أو سياسية، وكأن هذه الأوراق والمستندات ملك له يقرر متى يعطى التوقيع أو الختم. يحدث ذلك في وقت نجد فيه الموظف الحكومي فقط موكلاً بأداء مهام معينة وليس صاحب القرار الفعلي.
وبالتالي، يتزايد الإحباط عندما يتسبب غياب الموظف أو تأجيل المعاملة في إضاعة وقت طويل، يعكر حياة المواطنين ويؤثر على ثقتهم في المؤسسات الحكومية. إن هذا النوع من التعامل قد يؤدي إلى فقدان الثقة ليس فقط في الموظفين أنفسهم، بل في فعالية النظام الإداري ككل. أليس من المؤسف أن يصبح المواطن في مواجهة حواجز بيروقراطية بدلاً من التقدم إلى الأمام في بيئة تكنولوجية حديثة؟
حادثة مركز السجل العدلي:
وفي هذا السياق، نشهد يوميًا العديد من الحالات التي تُظهر مدى معاناة المواطن اللبناني بسبب الأنظمة الإدارية المتخلفة، ومنها ما حدث في مركز السجل العدلي في فرن الشباك. فقد شهد المركز صباح اليوم مشهدًا مؤلمًا يعكس بوضوح حجم الأزمة التي نعيشها. حيث اصطف المئات من المواطنين، العديد منهم من كبار السن، على الطرقات العامة وبين السيارات للحصول على خدمات بسيطة، في مشهد لا يمكن أن يحدث إلا في مكان تسيطر عليه بيروقراطية قاسية وسوء إدارة. ما هو أسوأ من ذلك هو أن المواطنين كانوا مُجبرين على الانتظار في الخارج تحت الشمس الحارقة، في حين كان الضابط المسؤول يتصرف وكأن هذه الإجراءات جزء من الروتين اليومي الذي لا يعير أي اهتمام لكرامة المواطنين.
المزيد من الإهانة جاء عندما بدأ الموظفون في التعامل مع المواطنين بشكل غير لائق، مما دفع الكثيرين إلى الشعور بالذل والإحباط بعد ساعات من الانتظار. وهذه الحادثة، التي أُثيرت عبر وسائل الإعلام، تُظهر بوضوح كيف أن النظام الإداري في لبنان لا يزال يفتقر إلى أسس الاحترام والاحترافية، ما يعزز الشعور المتزايد بانعدام الثقة في المؤسسات الحكومية.
إضاعة الوقت والفرص:
ما يضاعف الإحباط هو أن الوقت الذي يُهدر في هذه الإجراءات البيروقراطية يمكن استغلاله في العديد من الجوانب التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع. المواطن الذي يضيع يومًا كاملًا في معاملة يمكنه استغلاله في العمل، في تقديم خدمة أفضل للأسرة، أو في المشاركة المجتمعية التي يمكن أن تُسهم في تعزيز التنمية المحلية. أكثر من ذلك، الوقت الثمين الذي يُضيع في الانتظار يمكن استثماره في تطوير الذات، تعلم مهارات جديدة، أو حتى في العناية بالصحة.
إن الوقت هو من أثمن الأشياء التي نملكها، وكل دقيقة تُهدر في صفوف المكاتب الحكومية يمكن أن تكون فرصة ضائعة لتعزيز مهاراتنا أو لخلق تأثير إيجابي في حياتنا اليومية. بل إن تأجيل المعاملات أو تعطيل الإجراءات يتسبب في إضاعة الفرص، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الاقتصاد الوطني. إذا استمر الوضع على هذا النحو، فكيف يمكن للمواطنين أن يثقوا في النظام إذا كان يفرض عليهم عقبات غير مبررة ويستهلك وقتهم الثمين؟
الحلول المقترحة:
1. التحول الرقمي: لبنان بحاجة إلى التوجه نحو الأنظمة الرقمية لتبسيط الإجراءات الحكومية. يمكن للمواطنين إتمام المعاملات الحكومية بسرعة عبر الإنترنت، مما يقلل من الحاجة للانتقال بين المكاتب الحكومية والتعامل مع الروتين الورقي. العالم اليوم يتجه نحو الحلول الرقمية؛ لذلك، يجب على لبنان أن يتبع هذا الاتجاه لضمان تقديم خدمة أفضل للمواطنين.
2. مراكز خدمات موحدة: إنشاء مراكز خدمات حكومية موحدة حيث يتمكن المواطن من إتمام كافة معاملاته في مكان واحد، مما يقلل من الحاجة للتنقل بين عدة مكاتب، ويسهم في تقليص الوقت والجهد المبذولين. هذه الفكرة قد تساهم في تسهيل التعاملات وتقليل الضغط على الموظفين، مما ينعكس إيجابًا على الأداء العام.
3. إلغاء التماطل السياسي والبيروقراطي: يجب أن يُعتبر الموظف الحكومي مجرد وسيط يقدم الخدمة المطلوبة، وليس صاحب القرار. التأجيل بسبب أسباب سياسية أو شخصية يجب أن يُحارب ويتم معاقبة من يقوم به، إذ إن الهدف من الوظائف الحكومية هو خدمة المواطنين وليس عرقلتهم. التماطل يخلق بيئة من اللامبالاة ويزيد من الشعور باليأس لدى المواطنين.
4. تحسين التدريب: من المهم تحسين تدريب الموظفين الحكوميين على استخدام الأنظمة الرقمية والقدرة على تقديم خدمة أسرع وأكثر كفاءة للمواطنين. كما يجب أن يُشجع الموظفون على تقديم الخدمة بكل نزاهة واحترافية دون أي تأخير غير مبرر. الموظفون هم واجهة الدولة، ومن الضروري أن يكونوا مؤهلين للقيام بمهامهم على أكمل وجه.
خاتمة:
لبنان يحتاج إلى إصلاحات جذرية في النظام الإداري ليواكب عصر التكنولوجيا والتقدم. لن نتمكن من بناء دولة حديثة إذا استمررنا في الاعتماد على الأنظمة البيروقراطية القديمة التي تضيع وقت المواطنين وتعرقل تقدمهم. من خلال تبني الحلول الرقمية وتبسيط الإجراءات، يمكننا أن نفتح الباب أمام حياة أفضل للمواطنين، تتيح لهم استثمار وقتهم في أمور مفيدة بدلًا من إضاعته في صفوف طويلة أمام المكاتب الحكومية. إن إضاعة الوقت في الإجراءات البيروقراطية لا تقتصر على تعطيل حياتنا اليومية، بل تتسبب أيضًا في تأخير التقدم العام وافتقار الثقة في النظام، ما يعرقل القدرة على بناء دولة حديثة قادرة على المنافسة في العالم المعاصر.
نداء إلى فخامة الرئيس والحكومة:
كما تطرقت مجلة “الاعتبار” في هذا المقال، نأمل أن يتخذ فخامة الرئيس والحكومة اللبنانية هذه القضايا بعين الاعتبار، وخاصة ما حدث في مركز السجل العدلي. هذا ليس مجرد حادث عابر، بل هو مؤشر على ضرورة الإصلاح الجذري في المؤسسات الحكومية. نحن بحاجة إلى أن نعيش في بيئة أكثر احترامًا للمواطنين، حيث لا يُحرمون من أبسط حقوقهم في التعامل مع الحكومة بشكل لائق، وأينما كان المواطن، يجب أن يُعامل بكرامة.
الدكتور جيلبير المجبر