فن التعامل مع البشر: دروس في الحكمة من تراث العرب ✍️ بقلم الدكتور جيلبير المجبر

فن التعامل مع البشر: دروس في الحكمة من تراث العرب
✍️ بقلم الدكتور جيلبير المجبر
في الحياة، نلتقي بأصناف شتى من البشر، ولكل منهم طبيعته الخاصة، ونقاط قوته وضعفه، وخلفيته الفكرية والنفسية التي تشكل سلوكه. إن سر النجاح في العلاقات لا يكمن فقط في ما نقوله أو نفعله، بل في فهم من نخاطب وكيف نتعامل معه. وهنا تأتي الحكمة العربية التي خاضت التجربة، وعايشت أصناف البشر، فصاغت قواعد ذهبية تحفظ للمرء مكانته، وتحميه من زلات المواقف وسوء التقدير.
لا ترافق هؤلاء… فالرابطة معهم خاسرة
ليس كل من يظهر في طريقك جديرًا برفقتك، فالعرب قالوا:
• لا ترافق حديث السن، لأن قلة التجربة تجعله متسرعًا في أحكامه، مندفعًا في تصرفاته، يخطئ أكثر مما يصيب.
• لا ترافق حديث الغنى، فالثروة التي تهبط فجأة على إنسان قد تجعله متعجرفًا، لا يرى الناس إلا من علٍ، غير مدرك لحقيقة أن الزمن دوّار.
• لا ترافق حديث القيادة، لأن من يعتلي سدة الحكم أو المسؤولية حديثًا، يكون غالبًا مأخوذًا بنشوة السلطة، يجهل دروب الحكمة، ويتعثر في غروره قبل أن يستقر على أرض صلبة.
لا تعاند هؤلاء… فمعاندتهم خسارة مؤكدة
في دروب الحياة، هناك من خبر الدهر، وتمرّس في مجاله، فإن دخلت معه في عناد، كنت كمن يصارع الريح. العرب أوصونا:
• لا تعاند قديم المهنة، فهو الحاذق الذي أتقن صنعته، وعرف أسرارها، وأدرك ما لم تدركه بعد.
• لا تعاند قديم المعرفة، فالعلم ليس في كثرة الكتب وحدها، بل في التجربة التي تصقل العقول، ومن عاش طويلًا وفكّر عميقًا، لا يجدر بك أن تجادله في ميدانه.
• لا تعاند قديم الجيرة، فهو الأعرف بالأرض وأهلها، يملك شبكة علاقات متجذرة، ويعرف من أين تؤكل الكتف.
لا تطعن في هؤلاء… فالطعنة إليك راجعة
ليس أشد ظلمًا من اتهام الطاهرين، فالعرب حذرونا من الطعن في:
• نظيف الشرف، فهو كالزجاج الصافي، إن رميته بتهمة، تهشّم صداها عليك.
• نظيف السمعة، فسمعة الإنسان الصالح كالثوب الأبيض، والناس شهود على نقائه.
• نظيف اليد، فمن لم تمتد يده للحرام، لا يسهل على أحد أن يدين نزاهته، فإن فعلت، كنت أنت المتهم.
لا تجامل هؤلاء… فالمجاملة معهم حمق
ليست كل مجاملة دليل لباقة، فهناك من إن جاملته، كنت كمن يصب الزيت على نار غروره أو غبائه:
• لا تجامل قليل العقل، لأن الأحمق إن وجد من يصفق له، زاد في حماقته.
• لا تجامل قليل الخبرة، فهو قد يظن نفسه عالِمًا، فيتمادى في أخطائه.
• لا تجامل قليل الخير، فالمجاملات لا تغيّر النفوس الشحيحة، بل تجعلها تتوهم أنها على حق.
لا تتحدى هؤلاء… فالتحدي معهم معركة خاسرة
إن كنت حكيمًا، فاعرف من تخوض ضده معاركك، فهناك من لا يُهزم بسهولة:
• لا تتحدى قوي الإيمان، فإرادة المؤمن تصنع المعجزات، وقناعته ترفعه فوق الشك والتردد.
• لا تتحدى قوي العضلات، فإن لم يكن لديك ما يوازي قوته، فاعلم أنك دخلت في مغامرة خاسرة.
• لا تتحدى قوي الذاكرة، فالبعض لا ينسى، وإن أخطأت في حقه، ستجد خطأك مسجَّلًا في عقله، ينتظر اللحظة المناسبة ليذكّرك به.
لا تشاور هؤلاء… فإن مشورتهم تضليلك
إذا كنت تريد مشورة سديدة، فلا تطلبها من هؤلاء:
• لا تشاور ضعيف الشخصية، فالمتردد لا رأي له، وأنت بحاجة إلى رؤية واضحة لا ظلال فيها.
• لا تشاور ضعيف النفس، لأنه قد يميل مع الريح، يوافقك ظاهريًا، لكنه في داخله متذبذب.
• لا تشاور ضعيف الحجة، لأنه لا يملك منطقًا سليمًا، ومشورته لا تزيدك إلا حيرة.
لا تتجاوز هؤلاء… فإن في تجاوزهم نكرانًا للجميل
إذا وجدت شخصًا يحمل هذه الصفات، فإياك أن تتخطاه:
• كبير القلب، فهو الذي احتواك في لحظات ضعفك، وتجاوز عن زلاتك، فكيف تخذله؟
• كبير الهمة، فهو الذي يعلو فوق المصاعب، يشق الطريق حيث لا طريق، فالتقليل من شأنه تقليل من قيمة الإرادة نفسها.
• كبير الميعاد، أي من عُرف بوفائه بوعوده، فإن تجاوزته، فقدت رجلًا يُعتمد عليه.
لا تنس هؤلاء… ففيهم سر البقاء والنجاح
النجاح لا يصنعه الإنسان وحده، بل بمن يحيط نفسه بهم:
• لا تنس واسع الأفق، فهو الذي يرى ما لا تراه، ويفتح لك آفاقًا جديدة.
• لا تنس واسع البال، فمن يصبر عليك في الشدة، لن تجد مثله وقت الرخاء.
• لا تنس واسع الحيلة، فهو الذي يجد لك مخرجًا حين تظن أن الأبواب كلها مغلقة.
لا تُقنع هؤلاء… لأن المحاولة معهم عقيمة
بعض العقول مغلقة، ومهما حاولت، لن تغيرها:
• لا تُقنع ضيّق الخلق، فالمتعصب لرأيه لن يسمعك، ولو كنت على صواب.
• لا تُقنع ضيّق النظرة، فهو لا يرى إلا زاوية واحدة من الحياة، ولن تستطيع توسيع مداركه.
• لا تُقنع ضيّق التفكير، فالعقل المحدود يبقى أسير حدوده، وإن حاولت، كنت كمن ينحت في الصخر.
لا تجادل هؤلاء… فالجدال معهم مضيعة للعقل والوقت
في عالم النقاش، هناك من لا يستحق وقتك وجهدك:
• لا تجادل صغير العقل، فالحماقة لا دواء لها.
• لا تجادل صغير السن، لأن التجربة وحدها تعلّم، وهو لم يعش ما يكفي ليُدرك الأمور كما هي.
• لا تجادل صغير التجربة، فالكلام لا يغني عن الخبرة، ولا يمكنك إقناع من لم يختبر الحياة بعد.
الخاتمة
هذه القواعد ليست مجرد عبارات، بل مفاتيح لحياة أكثر حكمة واتزانًا. فمن عرف متى يصاحب، ومتى يجامل، ومتى يعاند، ومتى يصمت، امتلك مفتاح العلاقات الناجحة، وأمّن نفسه من كثير من المتاعب. فالعاقل ليس من يكسب جميع الناس، بل من يعرف من يستحق أن يكسبه ومن يجدر به أن يتجاهله.