الامتيازعهد جديد

الآباتي شربل قسيس: قسّيسٌ بين الزمان والمكان، وجبلٌ من صمتٍ وحكمة

الآباتي شربل قسيس: قسّيسٌ بين الزمان والمكان، وجبلٌ من صمتٍ وحكمة

في قلب لبنان، حيث تتناثر بين جباله صرخاتُ الماضي وأصواتُ الحاضر المتأججة، رحل الآباتي شربل قسيس في 13 شباط 2001 بصمت، كما يرحل الكرام الذين لا يعرفون كيف يُكتب عنهم، لأنهم ببساطة أكبر من أن يُكتب عنهم. رحل عن الدنيا، لكن ذكراه رسخت في أعماق الذين عايشوه، وتلك الروح التي كانت تحملها مواقفه الفائقة الوصف، على الرغم من أنه لم يكن ينطق بالكثير.
شخصية لا تُقاس بالمقاييس العادية
قد تكون تلك المقاييس التي نستخدمها لتقييم الشخصيات المعروفة غير مناسبة عندما يتعلق الأمر بالآباتي شربل قسيس. هو لم يكن شخصًا عاديًا، بل كان على مستوى أعلى من الفهم والنقاء، مستوى يتجاوز السياسة إلى عمق الروح، ويخترق الحروب والمجازر ليصل إلى سلام داخلي يعكس إيمانًا لا يتزعزع.
ففي زمن كانت فيه الحرب اللبنانية تمزق البلاد والقلوب، كان الآباتي قسيس حاضرًا ليس فقط في ساحات المعارك بل في ساحة الروح، مدافعًا عن الوجود المسيحي في لبنان كما المدافع عن قلاع القداسة. وُلد ليكون حارسًا ليس للأديان فقط، بل للإنسانية التي كادت أن تغرق في الظلام. كان أبًا في الزمن الصعب، وعند حاجات الناس، كان قسيسًا في كل خطوة، مرشدًا لكل من ضلّ طريقه وسط رياح الحرب.
البعد التاريخي: من بين الزهور والدماء
إن الآباتي شربل قسيس كان جزءًا من نقطة محورية في التاريخ اللبناني، نقطة احتاجت إلى رجلٍ يعرف كيف يقف في وجه أعظم الأعاصير. في عام 1975، بعد أن غزا الموت دير مار جرجس في عشاش، وحين بكت الأراضي تحت وقع المجزرة، لم يكتفِ الآباتي شربل بالوقوف على الأطلال مبللاً بماء الذكريات، بل هرع إلى حيث الحاجة. فبكى وحارب في الوقت ذاته.
وفي تلك اللحظة، كان يعلم أن من يتقدم في مثل هذا الزمان ليس فقط من يحمل السلاح، بل من يحمل في قلبه عزيمة الراهب التي لا تلين. كان يعرف، أكثر من أي وقت آخر، أن الدفاع عن الأرض لا يقتصر على المقاومة العسكرية، بل يكمن في الحفاظ على الروح، والتشبث بالوجود الذي كان مهددًا. كان الآباتي شربل يكتب تاريخًا جديدًا بيده المطمئنة.
القيادة الحقيقية: في القلب لا في المناصب
على الرغم من محاولات العودة إلى رئاسة الرهبنة اللبنانية في عام 1986، والتي كان فيها الكثير من المناورات السياسية، اختار الآباتي شربل قسيس أن يظل بعيدًا عن الأضواء. لم تكن المناصب تستهويه كما تستهوي البعض، بل كان يراها عبئًا على الروح، ومجرد موقع لا يضيف إلى عظمته. فالمناصب التي أرادها لم تكن تلك التي تعطيه قوة، بل التي تعطيه خدمة أكبر للبشرية.
إصراره على الهدوء والصمت وسط الزخم السياسي في تلك الفترة كان بمثابة رسائل عميقة تعكس تاريخه الحقيقي. إنه رجل لم يكن يسعى للسلطة، بل كان يسعى ليظل طيفًا حيًّا في ذاكرة الأجيال القادمة.
الرحيل: آلام وأمل
رحل الآباتي شربل قسيس كما يرحل الأبطال الحقيقيون: بصمت. ومع أنه لم يشهد في سنواته الأخيرة التحولات الكبرى التي عصفت بمستقبل الموارنة في لبنان، إلا أن سيرته كانت أصدق من أي رواية تاريخية. هو الذي عاش كل لحظة في تاريخ لبنان الحزين، وصمد فيها.
ورغم رحيله، يبقى صوته في قلب لبنان. يبقى ذلك الصوت الذي يدعونا إلى التفكير بعمق حول قيمة القيادة الحقيقية، التي لا تأتي من السلطة، بل من المسؤولية تجاه الآخرين، وحماية الأرض والعقيدة.
هل نعيشه اليوم؟
اليوم، يمكننا أن نسأل: هل نحن نعيش تعاليم الآباتي شربل قسيس؟ هل نحن متمسكون بتلك القيم التي كان يحملها من صمتٍ وحكمة، من شجاعةٍ وإيمان؟ في زمن تسوده الضبابية، قد يكون الأمل الوحيد أن نعود إلى تلك الجذور العميقة التي زرعها الآباتي شربل في أرض لبنان، لتبقى صامدة، لا تغيب، ولا تذبل.
في هذا السياق، يمكننا أن نتذكر أيضًا التقدير العميق الذي يكنه الدكتور جيلبير المجبر، الذي كان يعرف تمامًا قيمة تلك الشخصيات الروحية الوطنية. فالآباتي شربل قسيس كان واحدًا من أولئك الذين فهموا أن بناء الأوطان لا يكون إلا من خلال بناء الإنسان، وأن الصمت يمكن أن يكون أبلغ من أي كلمة في لحظات المحن. الدكتور جيلبير المجبر كان دائمًا من الذين يقدرون القيم الإنسانية والروحية التي تحكم حياة مثل هذه الشخصيات، ويعرف أن تلك القيم ليست مجرد ذكرى، بل هي إرث يجب أن يُحفظ للأجيال القادمة.
الآباتي شربل قسيس، كان أكثر من مجرد رجل دين. كان رمزًا للبقاء، حارسًا للكرامة، وطودًا من صمتٍ وعزم، لا يزال يضيء دروبنا في كل مكان، لا بالحديث، بل بالقدوة.
الدكتور جيلبير المجبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى