
بين التاريخ والفرص: سعد الحريري في مفترق طريق العلاقة اللبنانية-السورية
مقدمة:
في هذا التوقيت الحساس الذي يمر به لبنان، وفي ظل التغيرات الإقليمية والدولية التي تشهدها المنطقة، يبرز ملف العلاقات اللبنانية-السورية كأحد الملفات الأكثر تعقيدًا وحيوية. ومع تطور الأوضاع السياسية في لبنان، تبرز شخصية الرئيس سعد الحريري كأحد الأفراد المحوريين في صياغة المستقبل السياسي للبلاد، وعلاقاته مع دمشق تُعد من أبرز النقاط الحساسة. في هذا المقال الذي نقدمه لكم من خلال مجلة الاعتبار، نناقش التحديات التي يواجهها الحريري في مفترق الطريق بين الحفاظ على السيادة اللبنانية وبين ضرورة إعادة بناء علاقات بناءّة مع سوريا، في ظل التحديات التاريخية والاقتصادية والسياسية التي يشهدها لبنان والمنطقة ككل.
خلفية تاريخية لعلاقات لبنان وسوريا
1. مرحلة الوصاية السورية:
علاقة لبنان بسوريا ليست جديدة، بل هي ممتدة عبر قرون من التاريخ المشترك بين البلدين. ولكن العلاقة الحديثة بين لبنان وسوريا شهدت تحولات كبيرة منذ تدخل القوات السورية في لبنان عام 1976، وذلك في إطار محاولة الحفاظ على الاستقرار الإقليمي في مواجهة الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت في عام 1975. في تلك الفترة، دخلت سوريا إلى لبنان بموافقة من جامعة الدول العربية، ولكن هذا التدخل العسكري تحول تدريجيًا إلى نوع من الوصاية السورية على لبنان.
سوريا، بقيادة الرئيس حافظ الأسد، لم تكن مجرد قوة عسكرية في لبنان، بل كانت أيضًا تلعب دورًا سياسيًا حاسمًا، وتسيطر على أغلب مفاصل السلطة في بيروت. كانت دمشق تتحكم في الحياة السياسية اللبنانية من خلال فرض موازنات طائفية، وتقديم الدعم للعديد من الأحزاب السياسية اللبنانية التي كانت تلتزم بموقفها تجاه سوريا.
2. اغتيال رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية:
شهد عام 2005 نقطة تحول في العلاقة بين لبنان وسوريا. في هذا العام، تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وهو الحادث الذي أثار زلزالًا سياسيًا في لبنان والمنطقة. أدى اغتيال الحريري إلى احتجاجات شعبية واسعة النطاق في لبنان، مما أدى إلى مطالبة السوريين بالانسحاب من الأراضي اللبنانية. وبضغط من الشارع اللبناني والمجتمع الدولي، قرر النظام السوري سحب قواته من لبنان بعد أكثر من 30 عامًا من الوصاية.
هذا الانسحاب لم يكن مجرد قرار سياسي، بل كان أيضًا بداية مرحلة جديدة في العلاقات اللبنانية-السورية، حيث دخل لبنان في فترة من الفوضى السياسية والفراغات الأمنية. في هذه الفترة، كانت مواقف اللبنانيين تجاه سوريا متنوعة، حيث ظهرت بعض القوى اللبنانية، مثل حزب الله والتيار الوطني الحر، التي كانت تفضل الحفاظ على علاقات وثيقة مع دمشق، بينما كانت قوى أخرى، مثل تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، تتبنى مواقف معارضة للنظام السوري.
3. مرحلة ما بعد الانسحاب السوري:
مع خروج القوات السورية من لبنان، أصبحت السياسة اللبنانية أكثر تعقيدًا. شهد لبنان انقسامًا حادًا بين معسكرين: أحدهما مؤيد للتقارب مع سوريا بقيادة بعض القوى السياسية اللبنانية، والآخر يعارض ذلك بشدة. في هذه الأجواء، كان تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري هو الجناح الذي كان يسعى إلى بناء علاقة لبنانية مستقلة، بعيدة عن الهيمنة السورية.
ومع مرور الوقت، تطورت الأمور في لبنان بشكل معقد، حيث أدت الاضطرابات السياسية الداخلية والصراعات الإقليمية إلى استمرار حالة الانقسام بين القوى اللبنانية. كان لبنان يعاني من أزمة سياسية، ومع ذلك، كانت العلاقات بين بيروت ودمشق تبقى محورية في صياغة المشهد السياسي اللبناني.
سوريا ما بعد الحرب والتحولات الإقليمية
1. التغيرات الكبرى في سوريا:
شهدت سوريا تغييرات دراماتيكية بعد بداية الحرب الأهلية السورية في 2011، حيث بدأت الأزمة السورية تأخذ بعدًا إقليميًا ودوليًا كبيرًا. كانت الحرب السورية بمثابة اختبار كبير للنظام بقيادة بشار الأسد، الذي تعرض لضغوط من القوى الغربية والعربية، إلا أن الدعم الروسي والإيراني كان حاسمًا في بقائه في السلطة.
وبالرغم من الدمار الهائل الذي خلفته الحرب، إلا أن سوريا بدأت تشهد تحولًا في سياستها الخارجية مع نهاية الحرب. بداية من عام 2018، بدأت بعض الدول العربية في إعادة العلاقات مع دمشق، كان ذلك يشمل دولًا مثل الإمارات العربية المتحدة، البحرين، والعراق، وهو ما ساعد على وضع سوريا في دائرة الضوء الإقليمي مرة أخرى.
هذا التحول في السياسة الإقليمية بدأ ينعكس على لبنان بشكل غير مباشر، حيث بدأت بعض القوى اللبنانية تدعو إلى إعادة العلاقات مع سوريا، وخاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي يواجهها لبنان.
2. التحديات الاقتصادية والسياسية في لبنان:
لطالما كانت العلاقات الاقتصادية بين لبنان وسوريا محورية في تطور الاقتصاد اللبناني. فقد كان لبنان يعتمد على سوريا في العديد من القطاعات الاقتصادية مثل النقل البري، والطاقة، والتجارة عبر الحدود. ومع الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، يبدو أن فتح قنوات تعاون جديدة مع سوريا أصبح أمرًا لا مفر منه بالنسبة للبنان، خاصة في ظل تراجع القدرة على تأمين الدعم الخارجي.
ومع ذلك، فإن العلاقة مع سوريا لا تزال قضية مثيرة للجدل في لبنان، حيث أن العديد من القوى اللبنانية ترفض أي نوع من التقارب مع دمشق، معتبرة أن ذلك قد يهدد سيادة لبنان واستقلاله. لكن في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، يبدو أن لبنان لا يملك رفاهية رفض التعاون مع سوريا إذا كان ذلك يساهم في تخفيف معاناته الاقتصادية.
سعد الحريري في مفترق الطريق
1. التحديات السياسية التي يواجهها سعد الحريري:
يواجه الرئيس سعد الحريري اليوم تحديًا كبيرًا في كيفية التعامل مع العلاقة مع سوريا. فهو يقف أمام مفترق طرق، بين المحافظة على مواقفه السياسية التي ترفض أي تدخل سوري في الشؤون اللبنانية، وبين إدراكه للضرورات الاقتصادية والسياسية التي تفرض التعايش والتعاون مع دمشق.
ورغم أن سعد الحريري قد بدا في فترات سابقة بعيدًا عن دمشق، إلا أن الواقع الإقليمي والضغوط الدولية قد تفرض عليه إعادة النظر في مواقفه. في الوقت ذاته، يواجه الحريري تحديات داخلية، حيث يعارض بعض حلفائه السياسيين أي خطوة نحو التقارب مع النظام السوري، بينما يعبر آخرون عن رغبتهم في بناء جسور جديدة مع دمشق.
2. التوازن بين السيادة الوطنية والعلاقات الخارجية:
الرهانات التي يتعامل معها الحريري تتراوح بين الحفاظ على سيادة لبنان وبين ضرورة التعاون مع سوريا في ظل الأزمات الإقليمية والداخلية. كما أن فتح قنوات الاتصال مع دمشق قد يعيد للبنان بعض استقراره الاقتصادي، لكنه في الوقت ذاته يثير الخوف من تأثير ذلك على استقلال لبنان السياسي.
وفي هذا السياق، يبرز سؤال مهم: هل يمكن للبنان أن يبني علاقات استراتيجية مع سوريا دون المساس بسيادته؟ وفي ظل المصالح الوطنية المشتركة، يمكن أن تكون هناك فرص حقيقية لإيجاد صيغة للتعاون تضمن الحفاظ على استقلال لبنان وسلامته.
3. الفرص والتحديات:
رغم التحديات الكبرى التي يواجهها سعد الحريري في هذا الملف، إلا أن هناك العديد من الفرص التي قد تساهم في تحسين العلاقة بين لبنان وسوريا. التعاون في مجال إعادة الإعمار، التبادل التجاري، والسياسات المشتركة في مواجهة التحديات الأمنية، قد تكون مجالات يتمكن فيها البلدين من إيجاد نقاط مشتركة.
نصائح للرئيس سعد الحريري
1. تعزيز موقف لبنان المستقل:
يجب على الحريري أن يضع نصب عينيه أن لبنان يجب أن يظل دولة ذات سيادة، وأن أي خطوات نحو دمشق يجب أن تكون مدروسة بعناية. يجب أن يكون هناك توازن بين التعاون الاقتصادي مع سوريا والحفاظ على استقلال لبنان في اتخاذ قراراته السياسية.
2. تأكيد الحضور العربي والدولي:
رغم أهمية العلاقات مع سوريا، يجب على الحريري أن يواصل تعزيز علاقات لبنان مع الدول العربية والمجتمع الدولي. في هذا السياق، يمكن للبنان أن يسعى إلى تحسين علاقاته مع الدول الغربية والعربية، بحيث تبقى خياراته مفتوحة على مختلف الأصعدة، سواء في السياسة أو الاقتصاد.
الخاتمة:
تظل العلاقات اللبنانية-السورية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الشرق الأوسط، ويقع العبء على كاهل سعد الحريري اليوم في إيجاد توازن بين مصلحة لبنان وأمنه السياسي. ومع التطورات المستمرة في المنطقة، يبقى الخيار الوحيد هو الحوار والتعاون على أسس متينة تضمن للبنان مستقبلاً مشرقًا دون التفريط في استقلاله.
ومن خلال مجلة الاعتبار، نأمل أن يساهم هذا التحليل في فهم أعمق للتحديات والفرص التي قد تفتح أمام لبنان في المرحلة القادمة، وأن يكون بداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين على أساس من الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة.